فصل: ذكر وصول رسول مركيس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر رحيله إلى الرملة:

ثم رحل السلطان ثاني رمضان نصف الليل خشية على مزاجه من الحر، ووصل بنا ضحوة النهار، ونزل في خيمة أخيه، وبات في تلك المنزلة، وأصبح ثالث الشهر راحلاً إلى جهة الرملة، فسار حتى أتاها ضحوة النهار، ونزل بالثقل الكبير نزول إقامة، ورتب العسكر ميمنة وميسرة وقلباً، وأطعم الناس الطعام، وأخذ جزءاً من الراحة، وركب بين صلاتي الظهر والعصر وسار إلى لد ورآها ورأى بيعتها وعظم بنائها، فأمر بخرابها وخراب قلعة الرملة، فوقع الخراب في الموضعين في ذلك اليوم وفرق الناس فرقا لتخريب المكانين وأرباح ما فيها من التبن والشعير في الأهراء السلطانية، وأمر من كان فيها من المقيمين بالانتقال إلى المواضع العامرة، وما كان بقي في المكانين إلا نفر يسير، وظل الناس يخربون إلى أن أمسى المساء، ثم عاد إلى خيمته وأصبح رابع رمضان فأقام الحجارين في المكانين ورتب عليهم من يستنجزهم في ذلك، وهو يتردد عليهم في الأصائل، حتى جاء وقت المغرب فمد الطعام وأفطر الناس وانفصلوا إلى خيمهم، ووقع له أن يسير خفية في نفر يسير يشاهد أحوال القدس. فسار من أول الليل، حتى أتى بيت نوبة، فبات فيها حتى أتى الصباح وصلّى ثم سار حتى أتى القدس في خامس الشهر، وخلف أخاه في العسكر يحث الناس على الخراب، وأقام ذلك اليوم يتصفح أحوال القدس في عمارته وميرته وعدته ورجاله وغير ذلك، وظفر في ذلك غلمان الطواشي قايماظ بنفر من النصارى ومعهم كتب قد كتبها الوالي إلى السلطان قريبة التاريخ يذكر فيها أعواز البلد الغلة والعدة والرجال، فوقف على الكتب وضربت رقاب كل من كان معهم، وما زال يتصفح أحوال المكان ويأمر بسد خلله إلى الثامن وخرج سائراً إلى العسكر بعد صلاة الظهر فبات في بيت نوبة. وفي هذا اليوم وصل عز الدين قيصر شاه صاحب ملطية ابن قليج أرسلان وافداً عليه مستنصراً به على أخوته وأبيه، فإنهم كانوا يقصدون أخذ بلدة منه فلقيه الملك العادل قاطع لد فاحترمه وأكرمه، ثم لقيه الملك الأفضل وضربت خيمته قريباً من لد. وفي ذلك اليوم خرج من العدو الحشاشة فحمل عليهم اليزك، ووصل الخبر إلى عسكرهم فخرج إلى نصرتهم خيالة وجرى بينهم وبين اليزك قتال، وذكر بعض الأسرى أنه كان معهم الأنكتار وأن مسلما قصد طعنه فحال بينه وبينه إفرنجي فقتل الإفرنج وجرح هو هكذا ذكروا والله أعلم.
ولما كان التاسع وصل رحمه الله إلى العسكر ولقيه الناس مستبشرين بقدومه، ولقيه ابن قليج أرسلان فنزل له واحترمه وأكرمه، ونزل في خيمته، وأقام يحث الناس على التخريب، وتتواصل أخبار العدو إليه، ويقع بينهم وبين اليزك وقعات، ويسرق العرب من خيولهم ويقاتلهم رجالهم.

.ذكر وصول رسول مركيس:

وفي غضون ذلك وصل رسول المركيس يذكر أنه يصالح الإسلام بشرط أن يعطى صيدا وبيروت، على أن يجاهر الإفرنج بالعداوة ويقصد عكا ويحاصرها ويأخذها منهم، واشترط أن يبذل للسلطان اليمين على ذلك ابتداء قسير العدل النجيب وحمله الإجابة إلى ملتمسه لقصد فصله عن الإفرنج فإنه كان خبيثاً ملعوناً، وكان قد استشعر منهم أخذ بلده وهي صور فانحاز عنهم واستعصم بصور وهي منيعة فقال ذلك القول لهذا السبب، وسار النجيب العدل مع رسوله في الثاني عشر واشترط عليه أن يبدأ بمجاهرة القوم وحصار عكا أخذها وإطلاق من بها وبصور من الأسرى، وعند ذلك يسلم إليه الموضعان. وفي عشية ذلك اليوم خرج رسول ملك الأنكتار إلى الملك العادل في تحريك سلسلة الحديث في الصلح.
ولما كان الثالث عشر من رمضان رأى السلطان أن يتأخر العسكر الجميل ليتمكن الناس من إنقاذ دوابهم إلى العلوفة، فإنّا كنّا على الرملة قريبين من العدو، ولا يمكن التفريط في الدواب خشية المهاجمة، فرحل ونزل على جبل متصل بجبل النطرون بالثقل الكبير وجمع العساكر ما عدا اليزك على العادة، وذلك بعد خراب الرملة ولد، ولما نزل هناك دار حول النطرون وأمر بخرابها، وكانت قلعة منيعة حصينة من القلاع المذكورة فشرع في خرابها.
وترددت الرسل بين الملك العادل والأنكتار يذكرون أنه قد سلم أمر الصلح إلى الملك العادل، وأخلد إليه، وخرج في عشرة أنفس إلى اليزك، فأخبروه بأخبار طيّبة وكتب بها إلى السلطان في السابع عشر، وكان مما اخبره به أخوه أن الملك افرنسيس مات، وكان موته بأنطاكية عن مرض عرض له، وأن الأنكتار عاد إلى عكا، وكان سبب عوده أنه صح عند مراسلة المركيس للسلطان وبلغه أن المركيس قد انتظم الحال بيننا وبينه وأنه قد استقرت القاعدة على عكا، فعاد هو إلى عكا لفسخ هذه المصالحة واسترجاع المركيس إليه، فركب السلطان إلى اليزك واجتمع بأخيه في لد، وسأله عن الأخبار، وعاد إلى المخيم وقت العصر، وأتى باثنين من الإفرنج قد تخطفهم اليزك فأخبروا بصحة موت الإفرنسيس وعود الأنكتار إلى عكا.

.ذكر مسير الملك العادل إلى القدس:

ولما كان التاسع عشر اقتضى الحال تفقد القدس والنظر في عمارته، وكان الملك العادل قد عاد من اليزك وعلم بعد مسير مقدمي الإفرنج عنا فرأى أن يكون هو الذي يسير، فسار في هذا اليوم لهذا الغرض. وفي تاريخ هذا اليوم وصل كتاب من تقي الدين يخبر فيه أن قزل صاحب ديار العجم ابن يلدكز قفز عليه أصحابه فقتلوه، وقيل أن ذلك كان من تحت يد زوجته تعصباً للسلطان طغريل، وجرى بسبب قتله خبط عظيم في بلاد العجم، وكان قتله في أوائل شعبان من هذه السنة.
ولما كان الحادي والعشرون من رمضان قدم الملك العادل من القدس، وفي هذا التاريخ وصل كتاب من الديوان العزيز النبوي يذكر فيه قصد الملك المظفر تقي الدين خلاط ويذكر فيه العناية التامة ببكتمر ويشفع في حسن بن قفجاق والتقدم بإطلاقه، وكان قد قبض عليه مظفر الدين بن زين الدين بإربل ويتقدم بمسير القاضي الفاضل إلى الديوان لبث حال وفصل أمر وسير الكتاب إلى الفاضل ليقف عليه ويكتب إلى تقي الدين.

.ذكر أخبار يزك كان على عكا ولصوص دخلوا في خيام العدو:

ولما كان الثاني والعشرون أحضر لصوص فرساً وبغلة قد دخلوا إلى خيم العدوّ وسرقوهما، وكان قد رتب رحمه الله ثلاثمائة لص من شلوح العرب يدخلون ويسرقون منهم أموالهم وخيولهم ويسرقون الرجال أحيانا، وذلك أنه يكون الواحد منهم نائماً فيوضع على حلقه الخنجر ثم يوقظ فيرى الشلح وقد وضع الخنجر على نحره فيسكت ولا يتجاسر أن يتكلم فيحمل وهو على هذا الوضع إلى أن يخرج من الخيم ويؤخذ أسيرا، وتكلم منهم جماعة فنحروا، فصار من أصابه ذلك لا يتكلم، واختاروا الأسر على القتل، وداموا على ذلك مدة طويلة إلى انتظام الصلح.
وفي ذلك اليوم وصل من اليزك من أخبر أنهم خرجوا من عكا يتفسحون وأن اليزك حمل عليهم فأسر منهم أحداً وعشرين نفساً، وأن الأسرى أخبروهم بصحة عود الأنكتار إلى عكا وأنه مريض بها، وخبروا عن ضعف أهل عكا وفقرهم وقلة الميرة عندهم. وفي هذا التاريخ وصل للعدو مراكب عدة قيل أنها وصلت من عكا وأن فيها الأنكتار قد عاد بجماعة عظيمة ليقصد عسقلان ويعمرها، وقيل يقصد القدس، والله اعلم.
ولما كان الرابع والعشرون وصل الأسرى المذكورون من الزيب وكان وصولهم فرحاً للمسلمين مبشراً بكل خير وفيه وصل رسول قزل وكان قد سيّره قبل وفاته، ورسول ابن أخيه إيناج، وفي عشيته وصل رسول من الأنكتار معه حصان إلى الملك العادل في مقابلة هدية كان أنفذها عليه، وفيه وصل خبر وفاة حسام الدين لاجين بدمشق لمرض كان اعتراه فصعب على السلطان موته وشق عليه، وفيه وصل كتاب من سامة يذكر فيه أن البرنس أغار على جبلة واللاذقية وانه كسر كسرة عظيمة وقتل منه جماعة وعاد إلى أنطاكية.

.ذكر رسول الملك العادل إلى الأنكتار:

ولما كان السادس والعشرون كان اليزك للعادل فطلب الأنكتار رسوله فأنفذ الصنيعة وهو كاتبه. وكان شاباً حسناً، فوصل إليه وهو في بازور قد خرج في جمع كثير من الرجالة وانبثوا في تلك الأرض فاجتمع به وسار معه زمناً طويلا وحادثه في معنى الصلح وقال لا ارجع عن كلام أتحدث به من أخي وصديقي، يعني العادل، وذكر له كلاماً وعاد وأخبره به، فكتبه الملك العادل في رقعة وأنفذها إلى السلطان وكان يتضمن أنك تسلم عليه وتقول له إن المسلمين والإفرنج قد هلكوا وخربت البلاد وخرجت من يد الفريقين بالكلية، وقد تلفت الأموال والأرواح من الطائفتين وقد أخذ هذا الأمر حقه وليس هناك حديث سوى القدس والصليب والبلاد، والقدس متعبدنا ما ننزل عنه ولو لم يبق منا إلاّ واحدا. وأما البلاد فيعاد إلينا ما هو قاطع الأردن. وأما الصليب فهو خشبة عندكم لا مقدار له وهو عندنا عظيم فيمنّ به السلطان علينا ونصطلح ونستريح من هذا التعب. ولما وقف السلطان على هذه الرسالة استدعى أرباب المشورة في دولته واستشارهم في الجواب والذي رآه السلطان أن قال القدس لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم مما هو عندكم، فإنّه مسرى نبيّنا ومجتمع الملائكة، فلا تتصوّر أن ننزل عنه ولا نقدر على التفريط بذلك بين المسلمين، وأما البلاد فهي أيضاً لنا في الأصل واستيلاؤكم عليها كان طارئاً عليها لضعف من كان فيها من المسلمين في ذلك الوقت، وما يقدركم الله على عمارة حجر منها ما دام الحرب قائما، وما في أيدينا منها نأكل بحمد الله مغله وننتفع به. وأما الصليب فهلاكه عندنا قربة عظيمة لا يجوز لنا أن نفرّط فيها إلا لمصلحة راجعة إلى الإسلام هي أوفى منها، وسار هذا الجواب إليه مع الواصل منه.

.ذكر هرب شيركوه بن باخل الكردي من عكا وكان أسيراً:

ولما كان آخر السادس والعشرين وصل شيركوه بن باخل وهو من جملة الأمراء المأسورين بعكا وكان من قصته أنه هرب ليلة الحادي والعشرين، وذلك أنه كان ادّخر له حبلاً في مخدّته وكان الأمير حسن بن باريك ادّخر له حبلاً في بيت الطهارة واتفقا على الهرب ونزلا من طاقة كانت في بيت الطّهارة، وانحدرا من السور الأوّل وعبر شيركوه من الباشورة وكان ابن باريك حالة نزوله انقطع به الحبل ونزل شيركوه سليماً، فرآه وقد تغير من الوقعة فكلّمه فلم يجبه، وحرّكه فلم يتحرّك، فهزّه لعلّه ينشط فيسير معه فلم يقدر، فعلم أنه إذا أقام عنده أخذا جميعا، فتركه وانصرف واشتد هرباً في قيوده حتى أتى تل العياضية وقد طلع الصبح، فأكمن في الجبل حتى علا النهار، وكسر قيده وسار وستر الله حتى أتى المعسكر ومثل بخدمة السلطان، وكان من أخباره أن سيف الدين المشطوب ضيّق عليه وأنه قطع على نفسه قطيعة عظيمة من خيل وبغال وأنواع الأموال وأن الملك الأنكتار أتى عكا وأخذ كل ما له بها من خدمه ومماليكه وأقمشته ولم يبق له منها شيئاً، وأن فلاحي الجبل يمدونه بالميرة مدداً عظيماً، وأن طغرل السلحدار أخذ خواص مماليك السلطان وهربوا قبل هروبه.
ذكر رسالة سيّرني فيها الملك العادل إلى السلطان.